فصل: ذكر انهزام سيف الدين غازي صاحب الموصل من السلطان صلاح الدين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر انهزام سيف الدين غازي صاحب الموصل من السلطان صلاح الدين:

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وفيها عاشر شوال كان المصاف بين السلطان صلاح الدين وبين سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بتل السلطان فهرب سيف الدين والعساكر التي كانت معه فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما وتمت على سيف الدين غازي الهزيمة حتى وصل إلى الموصل مرعوباً وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع فثبته وزيره وأقام بالموصل واستولى السلطان صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرهم ما فيها ثم سار إلى ترابه وحصرها وتسلمها ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال وكان صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي شديد البغض لصلاح الدين وفتحها عنوة وأسر ينال وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه فسار ينال إلى الموصل فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة ثم سار السلطان صلاح الدين إلى عزاز ونازلها ثالث ذي القعدة وتسلمها حادي عشر ذي الحجة فوثب الإسماعيلي على صلاح الدين في حصاره عزاز فضربه بسكين في رأسه فجرحه فأمسك صلاح الدين الإسماعيلي وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال ووثب عليه آخر فقتل وثالث فقتل أيضاً ونجا السلطان إلى خيمته مذعوراً وعرض جنده وأبعد من أنكره منهم، ولما ملك السلطان عزاز رحل عنها ونازل حلب في منتصف ذي الحجة وحصرها وبها الملك الصالح وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب فسألوه في الصلح فأجابهم إليه وأخرجوا إلينا بنتاً صغيرة لنور الدين فأكرمها وأعطاها شيئاً كثيراً وقال لها ما ترومين فقالت أريد قطعة عزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها السلطان إليهم واستقر الصلح ورحل السلطان من حلب في العشرين من محرم سنة اثنتين وسبعين.
وفي سنة إحدى وسبعين في رمضان قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بوصوله.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وفيها قصد السلطان بلد الإسماعيلية في قلعة مصياف فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة يسأله أن يسعى في الصلح فسأل الحارمي الصفح عنهم فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وصالحهم ورحل عنهم وأتم السلطان صلاح الدين مسيره ووصل إلى مصر فإنه كان بعد عهده بها بعد أن استقر له ملك الشام، ولما وصل إلى مصر في هذه السنة أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة على جبل المقطم ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع القاسمي ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقرافة وعمل بالقاهرة مارستان.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وفي جمادى الأولى منها سار السلطان من مصر إلى الساحل لغزو الإفرنج فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر فنهب وتفرق عسكره في الإغارات وبقي السلطان في بعض العسكر فلم يشعر إلا بالإفرنج قد طلعت عليهم فقاتلتهم أشد قتال وكان لتقي الدين بن شاهنشاه ولد اسمه أحمد من أحسن الشباب أول ما تكاملت لحيته فأمره أبوه تقي الدين بالحملة فحمل عليهم وقاتلهم فأثر فيهم أثراً كبيراً وعاد سالماً فأمره أبوه بالعود إليهم ثانية فحمل عليهم فقتل شهيداً وتمت الهزيمة على المسلمين وقاربت حملات الإفرنج السلطان فمضى منهزماً إلى مصر على البرية ومعه من سلم فلقوا في طريقهم مشقة وعطشاً شديداً وهلك كثير من الدواب وأخذت الإفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى وأسر الفقيه عيسى وكان من أكبر أصحاب السلطان فافتداه السلطان من الأسر بعد سنتين بستين ألف دينار ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة. قال الشيخ عز الدين علي بن الأثير مؤلف الكامل رأيت كتاباً بخط يد صلاح الدين إلى أخيه توران شاه نائبه بدمشق يذكر له الواقعة وفي أوله:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا ** وقد نهلت منا المثقفة السمر

ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا إلا الله سبحانه إلا لأمر يريده الله سبحانه وتعالى.
وفي هذه السنة سار الإفرنج وحصروا مدينة حماة في جمادى الأولى وطمع الإفرنج بسبب السلطان بمصر وهزيمته من الإفرنج ولم يكن غير توران شاه بدمشق ينوب عن أخيه وليس عنده كثير من العسكر وكان توران شاه أيضاً كثير الانهماك في اللذات. مائلاً إلى الراحات. ولما حصروا حماة كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي خال السلطان وهو مريض واشتد حصار الإفرنج لحماة وطال زحفهم عليها حتى أنهم هجموا بعض أطراف المدينة وكادوا يملكون البلد قهراً قم جد المسلمون في القتال وأخرجوا الإفرنج إلى ظاهر السور وأقام الإفرنج كذلك على حماة أربعة أيام ثم رحلوا عنها إلى حارم وعقب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي وكان له ابن من أحسن الناس شباباً مات قبله بثلاثة أيام.
وفي هذه السنة قبض الملك الصالح ابن نور الدين صاحب حلب على سعد الدين كمشتكين وكان قد تغلب على الأمر وكانت حارم لكمشتكين فأرسل الملك الصالح إليهم فلم يسلموها إليه فأمر كمشتكين أن يسلمها فأمرهم بذلك فلم يقبلوا منه فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة فعذب وأصحابه يرونه ولا يرحمونه فمات من العذاب وأصر أصحابه على الامتناع ووصل الإفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة وحصروا حارم مدة أربعة أشهر فأرسل الملك الصالح مالاً للإفرنج وصالحهم فرحلوا عن حارم وقد بلغ أهله الجهد وبعد أن رحل الإفرنج عنها أرسل الملك الصالح إليها واستناب بقلعة حارم مملوكاً لأبيه اسمه سرخك.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة وفي هذه السنة طلب توران شاه من أخيه السلطان بعلبك وكان السلطان قد أعطاها شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بالمقدم لما سلم دمشق إلى صلاح الدين ولم يمكن صلاح الدين منع أخيه عن ذلك فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك فعصي بها ولم يسلمها فأرسل السلطان وحصره ببعلبك وطال حصارها فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض فعوض عنها وتسلمها السلطان وأقطعها أخاه توران شاه.
وفيها كان بالبلاد غلاء وتبعه وباء شديد، وفيها سير السلطان ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص وأمرهما بحفظ بلادهما فاستقر كل منهما ببلده.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة وفيها سار السلطان وفتح حصناً كان بناه الإفرنج عند مخاضة الأجران بالقرب من بانياس عند بيت يعقوب، وفيها كان حرب بين عسكر السلطان ومقدمهم تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وبين عسكر قليج أرسلان صاحب الروم. وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم فطمع فيه قليج وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه وكانوا قريب عشرين ألفاً وسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم وكان تقي الدين يفتخر ويقول هزمت بألف عشرين ألفاً.

.ذكر وفاة المستضيء وخلافة الإمام الناصر وهو رابع ثلاثينهم:

في هذه السنة في ثاني ذي القعدة توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن وأمه أم ولد أرمينية وكانت خلافته تسع سنين وسبعة عشر يوماً وكان حسن السيرة وكان قد حكم في دولته ظهير الدين أبو بكر المنصور المعروف بابن العطار بعد عضد الدولة الوزير فلما مات المستضيء قام ظهير الدين بن العطار وأخذ البيعة لولده الإمام الناصر لدين الله ولما استقرت البيعة للإمام الناصر حكم أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل وقبض في سابع ذي القعدة على ابن العطار ونقل إلى التاج وأخرج ميتاً على رأس حمال ليلة الأربعاء ثاني عشر ذي القعدة فثارت به العلقة وألقوه من على رأس الحمال وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد وكانوا يضمون في يده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمست تلك المغرفة في العذرة ويقولون وقع لنا يا مولانا. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم ثم خلص منهم ودفن.
وفي هذه السنة في ذي القعدة نزل توران شاه أخو السلطان عن بعلبك فطلب عوضها الإسكندرية فأجابه السلطان إلى ذلك وأقطع بعلبك لعز الدين فخرشاه بن شاهنشاه بن أيوب فسار إليه فخر شاه وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية وأقام بها إلى أن مات.

.ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل:

ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي هذه السنة ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل والديار الجزرية وكان مرضه السل وطال وكان عمره نحو ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة أشهر وكان حسن الصورة مليح الشباب تام القامة أبيض اللون عاقلاً عادلاً عفيفاً شديد الغيرة لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغاراً فإذا كبر أحدهم منعه وكان عفيفاً عن أموال الرعية مع شح كان فيه وأوصى بالمملكة بعده إلى أخيه عز الدين مسعود بن مودود وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجار شاه فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره وكان مدبر الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز.
وفي هذه السنة سار السلطان إلى جهة قليج أرسلان صاحب بلاد الروم ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا فقصد صلاح الدين بلاد ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقها.
وفيها توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية وكان له معها أكثر بلاد اليمن ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن ودخل الإسكندرية، ومع هذا فلما مات كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما وصل إلى مصر في هذه السنة من شعبان واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.
ثم دخل سنة سبع وثمانين وخمسمائة وفيها عزم البرنس صاحب الكرك على المسير إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم للاستيلاء على تلك النواحي الشرقية وسمع ذلك عز الدين فرخشاه نائب عمه السلطان بدمشق فجمع جموعاً وقصد بلاد الكرك وأغار عليها وأقام في مقابلة البرنس ففرق البرنس جموعه وانقطع عزمه عن الحركة.
وفيها وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف فخشي السلطان صلاح الدين على اليمن فجهز إليه عسكراً مع جماعة من أمرائه فوصلوا إلى اليمن واستولوا عليه وكان نواب توران شاه على عدن عز الدين عثمان وعلى زبيد حطان بن كامل بن منقذ الكناني من بيت صاحب شيزر.

.ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب:

في هذه السنة في رجب توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر صاحب حلب وعمره نحو تسعة عشر سنة ولما اشتد به مرض القولنج وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله وكان حليماً عفيف اليد والفرج واللسان ملازماً لأمور الدين لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الشباب وأوصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب واستقر في ملكها. ولما استقر مسعود في ملك حلب كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار فأشار قيماز بذلك فلم يمكن مسعود إلا موافقته فأجاب إلى ذلك فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها سنجار إلى أخيه مسعود وعاد مسعود إلى الموصل.